في الختام 


نشرت "النازلة التندغية" ضمن مجموعة من الفتاوى والمساجلات العلمية دارت بين علماء المنتبذ القصي.
 فعلق على النازلة الأستاذ المحقق المصطفى ولد العالم ، ثم علق الشيخ الجليل المصطفى بن حبيب بن متالي، ولم يكن من االموضوعية عدم نشر بقية التعليقات والردود.
 لكن برد اليوم انتهت ردود الأطراف وطوي الموضوع لتكتمل الصورة فهي رباعية الأبعاد:
أهل أبابك
أهل أعمر اگدبيج
أهل آبيري
الركاكنة 
ولم يكن القصد معاذ الله إحياء ذلك الماضي وأنما كان القصد الاستفادة من مادته العلمية.
والأطراف كلها متفقة على أن الحب والود هو السائد قديما وحديثا بينها وأن وشائج الدم والقربى أقوى من النوازع

كتب الأستاذ: سيدي المختار لولي
النازلة التندغية .. نحو قراءة منصفة

نُشرت قبل أيام مطارحات تاريخية قيمة و مفيدة تتعلق ب " النازلة التندغية " المشهورة التي كان أطرافها في البداية أهل آبيري وأهل أبابك ثم اتسعت دائرتها لتشمل بعد ذلك جميع مكونات تندغ الغربية وبالأخص ركيزتي ادكفوديه والركاكنة ثم ألقت بظلالها أيضا على بعض القبائل الأخرى في منطقة الجنوب الغربي فكانت لهم مواقف مؤثرة في بعض مرافعاتها القضائية كقبيلتي المدلش وايدولحاج.
وأول مقال في هذه المطارحات التاريخية كتبه فضيلة الأستاذ المحقق المصطفى ولد العالم ثم كتب المقال الثاني الشيخ الجليل المصطفى بن حبيب بن متالي، وكلا الكاتبين - مد الله في عمرهما ونفع بهما - كتب ما وصل إليه علمه ، وأداه له فهمه من سرد لماجريات الأحداث ثم تحليل لتلك الماجريات حسب أدواته المعرفية ومروياته التاريخية المعتمدة عنده.
وبعد تأمل مقالي الأستاذين رأيت فيهما بعض ما يستحق أن يعلق عليه ويتطارح حوله؛ إثراء وتصحيحا للمادة العلمية والتاريخية، وتبيينا لبعض ما أجملاه وحقه التفصيل، وسوقا لمرويات أخرى لم ترد في مقاليهما ومن الواجب فيما أرى ذكرها لأهميتها في فهم الأحداث، وأرجو أن يكون تعليقي مساهمة - مع الأستاذين - في وضع معالم منهج يتطلبه البحث العلمي في هذه النازلة، ويساعد في فهم سياق المساجلات العلمية الفريدة التي دارت بين أولئك الأئمة الأعلام، وإني وإن كنت مترددا بل ومتخوفا من الخوض في هذه الأحداث التي الباحث فيها ـ لاعتبارات مفهومة ـ كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى، إلا أن خوفي زال وترددي تبدد لما خاض فيها الأستاذان قبلي وهما أعلم وأجل، فأنا مؤتم بهما محرم بما أحرما به، معتذر بما اعتذرا به وأتوخى من الفائدة ما توخياه والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة :: بسعدى شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا :: بكاها فقلت الفضل للمتقدم
أولا: من اللازم لأي بحث يتحرى العلمية والتحقيق حول هذه الأحداث أن يعتمد في سرده التأريخي على مراسلات الشيوخ الأعلام: لمرابط ولد متالي ومحنض بابه ومحمد لولي، ثم على أشعار العلامة محمذن بن سيدي أحمد؛ فهي أصدق وأقدم وثائق وصلتنا عن الأحداث، وكتبتها أيدي من صنعوها وشاركوا فيها مباشرة، واستنطاق هذه الرسائل والأشعار معين على معرفة الأحداث وتأويلاتها عند كل طرف، ولعل الأستاذين لو احتكما إلى شعر العلامة محمذن بن سيدي أحمد في الواقعة لفصل بينهما في بعض ما اختلفا فيه.
ثانيا: من المعروف أن قبيلة تندغه وريثة للإيالة اللمتونية وأصل الزوايا وأقدمهم في المنطقة [ ينظر نصوص من التاريخ الموريتاني بتحقيق محمذن باباه ص ٧١]، ومساكنهم من قديم ما بين الساقية الحمراء ووادي الذهب حتى ما وراء ضفة نهر صنهاجة، ولا يكاد ينازعهم في مجالهم الجغرافي الواسع والممتد قبيل من الزوايا، وحصول خلافات صغيرة بينية كهذه النازلة ومثلها في تجمع بشري كهذا وفي مجال كالذي وصفنا من سنن الله في العمران.
ثالثا: هذه المنازعات البينية الصغيرة لم تؤثر على حلف هذه الكونفدرالية التندغية الذي تأسس في حدود القرن السابع الهجري، والشواهد على عدم تأثير هذه المنازعات كثيرة ذكر الأستاذان بعضها، ومنها أيضا هذه النازلة التي رغم بعض أحداثها المؤلمة لم تؤثر في هذا الحلف ولم تفسد لود أهله قضية وتنوسيت أحداثها رغم مرارة بعضها وغابت كثير من أخبارها عن المخيلة الجمعية لأهلها، وظلت بحمد الله آصرة الدم وأخوة القربى والمودة الطارفة والتالدة الحاكم المسيطر على علاقات أطرافها، ومن أمثلة هذه العلاقات :
١ - أن الشيخ الأكبر العلامة المرابط ابن متالي كانت تجمعه بشيخ الركاكنة حسنة بلاد القبلة محمذن بن مختار الله - أخي القائد السيد الشيخ محمد عبد الله المشهور ب " أبوه " ولد أبوه - وإخوته أحمد والصف علاقة متينة نجد ترجمة بعضها في مرثية لمرابط له التي يقول في مطلعها :
جبرا رضينا حكم رب الناس • فينا بحرق الموق والأنفاس
من أخذ عارية تناسى ردها * لمكانها من لم يكن بالناسي
إلى أن يقول فيها:
ما مات من أبقى ثناء صادقا * في الأهل والبيداء والقرطاس
أصفي أيدك الكريم مؤيدا * من جذر مجد لم يقس بقياس
اصبر نكن بك صابرين فإنما * صبر الرعية عند صبر الراس
وقد كان الشيخ العلامة أحمد بن مختار الله من أقرب تلاميذ المرابط ولد متالي إليه وزوج ابنته الصالحة خديجة، ومثله في الدراسة على المرابط ابنُ أخيه العلامة الشيخ أحمد حامد بن محمذن بن مختار الله أرسله للدراسة عليه الشيخ لولي بن اليعقوب، وهؤلاء السادة من أبناء مختار الله هم قادة العشير الركوني في تلك الفترة وأصحاب نفوذ اجتماعي واقتصادي كبير جدا، أفاض العلامة الشيخ كلاه في الثناء عليهم في كتابه إتحاف المبتغى، ووصفهم بالملوك البرامكة [ إتحاف المبتغى ص 22 ] ويسوق المؤرخ المختار بن حامدن قصة عجيبة تبرهن على بعض هذه المكانة وهي: أن مختار الله ( هكذا في حياة موريتانيا، والقصة معروفة لابنه الصفي أخي أبوه ولد أبوه رحمهم الله ) كان له عينان في بير تنبراهيم انقضت ثلاثون ليلة لم تسق منها إلا ماشيته ثم لا يرجع ما سقي منها، وأنه سافر من تنبراهيم إلى الزيرة ـ وبينهما 300 ميل ـ فكان فيما بين تنبراهيم وتيورورت يظل ويبيت في إبله، وفيما بين تيورورت وتنجمارة يظل ويبيت في غنمه، وفيما بين تنجمارة والزيرة يظل ويبيت في بقره، وملك من كل نوع من الماشية ألفا وربى ألف نعامة وألف مهاة !" [ حياة موريتانيا، جزء تندغة ص 110 مرقون ]
كما أن العلاقة بين الشيخين العلمين العلامة المرابط ولولي كانت علاقة متنية أوثقت عراها خؤولة العلامة المرابط للشيخ لولي وشدتها رحم العلم برباط وثيق، وقد تواتر عندنا أن العلامة ابن متالي كان في محلته العامرة باطويلة فقال لتلامذته غدا نزور الشيخ لولي بن اليعقوب، وكان آنذاك نازلا باندغمش، وفي نفس الليلة قال الشيخ لولي لتلامذته غدا نزور العلامة لمرابط ولد متالي باطويلة، وفي الصباح ارتحل الشيخان كل منهما قاصدا زيارة الآخر، فالتقيا في الطريق ضحوة وجلسا يتباحثان منفردين حتى آذتهما شمس النهار فغطى عليهما التلاميذ " بآفراويل" ولما أرادا التفرق، قال الشيخ لولي لتلامذته: اذهبوا إلى العلامة ابن متالي يدعو لكم فهو اليوم خير أهل الأرض، وقال العلامة المرابط ابن متالي مثلها لتلامذته [ ينظر طلائع الأدب للعلامة محمدن لبات ولد لولي، مخطوط بحوزتنا ]
كما أن الشيخ لولي أرسل تلميذه المقرب الشيخ أحمد حامد مختار الله بعد أن فتح الله عليه عنده، إلى العلامة ابن متالي ليدرس عليه العلم، فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر!.
وروينا عن فضيلة الشيخ الشمشاوي بن باباه بن متالي ـ حفظه الله ـ أن العلامة المرابط رثى الشيخ لولي بن اليعقوب بمرثية مستجادة رحمة الله عليهم أجمعين.
٢- أن علاقة أهل أبابك بالركاكنة قبل الأحداث وبعدها ظلت متينة، ومن براهين هذه العلاقة قصائد العلامة الشاعر محمذن بن سيد أحمد في مدح صديقيه الشيخ الممدح المجاهد المستعين بن صُلاحْ بن المقري البحبيني، والشيخ العلامة سعدي بن اليعقوب أخي الشيخ محمد لولي، وهي من روائع شعر أهل المنكب الغربي ويرجع لها في ديوانه.
٣ - أما العلاقة الآبيرية الأبابكية فهي نار على علم و أشهر من أن تذكر، وأما علاقة أهل آبيري ولمرابط ابن متالي فمن شواهدها ما تواتر عنه من ثناء دائم على الولي الصالح العلامة الفائق بن منيري، وذكر كراماته وحث تلامذته على الاهتداء بهديه، كما تتلمذ كثير من أعلام آل ابيري على المرابط وحظوا عنده بمكانة خاصة؛ كالعلامة الشيخ محمد اغربط ولد اماه الذي كان لمرابط يثني عليه ويزكية تزكية فريدة، مع علاقته الوطيدة برؤسائهم كالشيخ العلامة أحمد سالك ولد عباس وغيره.
4- أما علاقة آل آبيري بالركاكنة فمن أمثلتها خؤولة الركاكنة لكثير منهم عن طريق أمهم الصالحة السالمة بنت المختار بن بحبين، كما أن أبناء محمذن بن مختار الله الكبار أمهم كريمة قومها بيكه بنت احمتك الآبيرية، كما تجمع الشيخ لولي ولد اليعقوب علاقة خاصة بأهل آبيري فشيخه الأوحد في العلوم والأوراد ووصية أبيه الشيخ عبد الله اليعقوب هو سيد الأولياء الصالح ذو البركات الفائق بن أحمد بن مُنِّيري.
ولا يخفى على القارئ الفطن أن هذه الأمثلة مع ظهورها وأهميتها لا تقتضي الحصر ولا تدعي الإحاطة، فمن العسير حصر مظاهرعلاقة مجتمع واحد! وقد قالوا من المعضلات توضيح الواضحات.
رابعا: ذكرالأستاذ المصطفى ولد العالم أن تدخل الركاكنة بقيادة أهل مختار الله في الأحداث كان نتيجة منافسة تاريخية قديمة بين الفوديين والركاكنة، وجعل من هذا القول " نموذجا تفسيريا " بنى عليه رؤيته لأحداث النازلة ، وبما أن الأستاذ لم يقدم أي دليل على هذه المنافسة! فالظاهر أنها مجرد تحليل وافتراضات، لا تصديق لها في الواقع، بل التاريخ الشاهد على علاقات راسخة مشهورة ومعروفة بين مكونات الركيزتين عموما وبين بعض أفرادهما والشيخ المرابط على وجه الخصوص والتي ذُكرنا طرفا منها سابقا ينفي هذا التحليل المفترض ويدل دلالة صريحة على أنه لم تقع أية أحداث ولا مظاهر تنافسية بين الركيزتين قبل هذه النازلة.
خامسا: ربما بناء على " نموذجه التفسيري " السابق ذكر الأستاذ المصطفى العالم أن أهل مختار الله هم من لم يرض بحكم لمرابط " ربما لأكثر من سبب " ـ حسب تعبيره ـ وهو ما لم يقدم عليه أيضا أي دليل، والذي يصدقه الواقع أن الطرف المباشر وهو أهل آبيري بما أنهم تحفظوا في البداية على تحكيم لمرابط بسبب استضافته للشيخ سيدي أحمد وقبوله مساعدته في أخذ حقه وفسروا ذلك بانحيازه لأهل أبابك ـ وهذا باعتراف الأستاذ المصطفى العالم في مقاله ـ ولم يقبلوا تحكيمه إلا بعد لأي فقد ترددوا كذلك في قبول نتائج ذلك التحكيم، مما جعل المرابط يحاول فرض حكمه عليهم بالقوة بعد صبره سنة وكسرا كما يقول في إحدى رسائله، وأرسل جيشا لإرغام أهل آبيري، لتحصل بعد ذلك أحداث أهمها حادثة " آمسيدير " التي قتل فيها العلامة محمذن ولد سيد أحمد الأبابكي الشيخ محمود فال ولد أحمتك الآبيري، وبعد هذا جاء تدخل أهل مختار الله للروابط الاجتماعية بينهم وبين آل آبييري ( خصوصا أن الشيخ محمود فال بن احمتك المقتول خال أبناء محمذن ولد مختار الله أخي شيخ أهل مختار الله تلك الفترة وقائدهم في النزاع محمد عبد الله ولد مختار الله " ابوه ولد ابوه " ) وهذا السبب وحده كاف خصوصا إذا أضيف إليه أن آل أعمر بن ييج والركاكنة رأوا أن لمرابط لم يعتمد منذ البداية سياسة تشاورية كافية لحل الصراع والقضاء عليه من جذوره، وأن سعيه في تنفيذ حكمه بالقوة ترتبت عليه عدة مفاسد، وهذا ما يعبر عنه الشيخ لولي في رسائله [ تنظر رسائل لولي؛ الرسالة في الفتوى ٦٠٥١ ص ٦٠١٠،وكذلك الرسالة في الفتوى رقم ٦٠٥٦ ص ٦٠٢١ مجموعة ولد البراء ] .
لكن لمرابط ابن متالي ينفى اتهامات الركاكنة وبين أنه ما قصد إلا الحق ـ قلت: ولعمر الله لا يظن به إلا ذاك ـ وأنه دخل في النزاع مكرها بعد أن أعلن جميع الأطراف قبول حكمه مبينا عذره وحجته الشرعية في سعيه إلى تنفيذ حكمه بالقوة [ينظر رسائل بن متالي، الرسالة في الفتوى رقم ٦٠٤٦ ص ٦٠٠٧ مجموعة ولد البراء]
وهذا الخطأ في سوق هذا الجزء من رواية النازلة حصل مثله من الشيخ المصطفى بن حبيب، فليتأمل!
والذي تدل عليه مراسلات الشيخ لولي أنه لمن يكن يرى الحكم بالقصاص على محمذن ولد سيد أحمد مجديا بل كان منطلقا من أصله الذي أصله في كل مراسلاته كما سيأتي وهو أن الأرض السائبة التي لا سلطة فيها إنما يحكم فيها في مثل هذه النوازل بالصلح فقط, لأن شروط إقامة القصاص مفقودة والموانع منه عديدة، يقول في إحدى رسائله للعلامة محنض بابة " فها نحن حكمنا على ابن سيد أحمد بالقصاص بعد القسامة والاصمعداد، وعلى غيره برد الأموال والتعزيرات مع الاقتصاد، فلم يفدنا سوى كثرة الفساد، والتهيؤ للأغلال والأصفاد، وإبطال الديات والكشف عن حرمات الحرائر وضرب الأولاد".
سادسا: لعل سبب تضخم هذه النازلة وذيوع أخبارها وعدم وأدها في مهدها كان محورية الطرفين ( أهل آبيري وأهل أبابك ) فكلاهما كان يتمتع بنفوذ علمي واقتصادي وعلاقات اجتماعية بمختلف الركائز التندغية وصدارة في المنطقة مما جعل تندغه تنقسم على نفسها بين الطرفين الذين يحسب كلاهما أنه على الحق ولا يقصد مخالفة شرع الله بل هو متأول مأجور إن شاء الله في حالي الخطأ والصواب.
سابعا: أشار الشيخ المصطفى بن حبيب إلى أن العلامة لولي بن اليعقوب "فيما يبدو قبل بمشهورية حكم محنض بابه في مذهب مالك ورأى أن خلاف المشهور أصوب وأصلح " وهذا الذي ذكره الشيخ المصطفى يخالف ما كرره لولي عدة مرات في مراسلاته، فقد نص مرارا على أن ما حكم به الشيخ محنض بابه وسلمه الشيخ المرابط مرجوح في المذهب بل وفي المذاهب الأربعة، يقول الشيخ لولي مجيبا الشيخ المرابط " وفقه النازلة قد جمعته لك [.......] وهاك محصولا آخر في المسألة مبينا لك ما هو المعتمد في المذاهب الأربعة اعلم أن القتيل إذا لم يعرف قاتله كنازلتك إن كان ثم لوث أو كان في محلة أو قرية أعداء لا يخالطهم غيرهم، أو ادعى الولي على معين حلف الأولياء خمسين يمينا على المدعى عليه وتؤخذ الدية من عاقلته إن ادعى عليه الخطأ، وإن ادعى عليه العمد أخذت من ماله ولا قود عند أكثر المالكية والشافعية والمحققين وأحد قولي مالك ومذهب أحمد لزوم القود في العمد................" [ انظر الرسالة في الفتوى رقم 6056 ص 6021 مجموعة ابن البراء ].
وذكر ما يكاد يطابق هذا الكلام في رسالته إلى العلامة محنض بابه [ انظرالرسالة في الفتوى الرقم 6043، ص 5998 مجموعة ابن البراء ]
ونقل نقولا كثيرة عن الأئمة في كتب المذهب المعتمدة تبين أن قوله في النازلة هو المعتمد المشهور، وأجمل في عبارة قوية بعض أوجه نقضه لحكم العلامة محنض بابه بقوله " وقضاء المحكم في الدماء على غائب بدعوى وكالة وبينة غير مسماة، مما لا بأس به إن شاء الله !! "
فالعجب من الشيخ المصطفى بن حبيب كيف ينسب إليه القول بمخالفة المشهورهذه النازلة ؟
صحيح أن الشيخ لولي صرح أن كل الفروع التي جُلبت في عين النازلة مؤيدة للقصاص أو رافضة له مبنية على ثبوت الحكم به بقيام أسبابه وتوفر شروطه وأركانه وانتفاء موانعه، وهو يرى أن ذلك معدوم في البلاد في تلك الفترة، فلو سَلَم للشيخين محنض بابه ولمرابط مشهورية ما ذهبا إليه فلا يصح عنده تنفيذه لانتفاء أركان الحكم وشروطه وقيام موانعه، يقول الشيخ لولي في رسالته إلى الشيخ محنض بابه " وجميع ما جلب تفريع على ثبوت الحكم بالقصاص، وذلك بعد ثبوت الأسباب والشروط والأركان ونفي الموانع وظهور المصالح حتى يثبت القصاص" ويقول له " أنت تقر بعدم الأركان التي عليها يشاد، وتعترف بعدم الولاة والقضاء والحماة وعموم الفساد والأحقاد، وتحكم بالقصاص بين هذه الأجناد! فكيف يشاد ما تهدمت أركانه وفني أساسه وتضاءل بنيانه؟ فقد أشحنت بذلك الأمهات، وسلمته العلماء والقضاة، وذلك لعدم الولاة والحماة التي اعتمدت أنت عليها في هذه المشاجرات، فلم تغن سوى نهب أموال البرآآء وضرب المحصنات، ولم تراع أن الوسائل إذا لم يترتب عليها المقصد في المحاكمات إلى آخر ما ذكر في الحكايات، وأما سد الذرائع ودفع المفاسد المعاينات فمقدم عند مثلك في جميع الحالات، انظر ما رجع إليه القاضي أبو العباس الشماع بعدما عقد على البرزلي في هذه الأوضاع، مع وجود إمام لا يجري الأحكام الشرعية على أصلها، إذ غاية ما تصل إليه الاستطاعة دفع المفسدة في بعض أحوالها ..... وقد تكون في النازلة أوصاف وجودية وعدمية لا يجوز الاعتماد فيها على إجمال أهل النقول المعتبرين ..... فالشريعة تراعي الأصلح ولا سيما إن كان معه درء مفاسد شررها قد اتضح " ويقول " وأما قولك ولا يكون عدم الانقياد للحكم في القصاص حجة، فهو مخالف لما عليه الأئمة من أن عدم التمكن من إقامة الحد أو خوف الناس من إقامة الفتن، يوجب المصير إلى ما يدرأ المفاسد مما أذن الشرع فيه وأمكن، وهو مما أغنى عيانه عن بيانه حتى صار كأنه إجماع، إذ لا يكلف الله الشخص إلا ما استطاع، فمن أتى بمقدوره مما كان من مأموره، فلا حرج عليه في أموره، وإلا فلا فرق في سائر الأحكام بين العامة والقادة والحكام، وقد فُرق بين الأمة في مأموراتها وأمرت بالدرء والجلب على حسب مقدوراتها " وقال أيضا " وقولك " وقد ذكر ابن مرزوق .. فلم نر من صرح بمشهوريته بل إنما أنت في عهدة مشهوريته ورجحانيته، وقد عدل كثير من شيوخ المذهب كابن رشد وابن سهل وابن زرب وابن عتاب وابن العربي وعياض واللخمي عن المشهور لما عليه العمل والاستصحاب، وهي اختيارات وتصحيحات لبعض الأقوال جرى بها عمل الحكام، لما اقتضته المصلحة وبذلك تجري الأعراف والأحكام، حتى إن ابن رشد قال في رحلته إن اتباع النص في بعض النوازل من غير اعتبار الأحوال من الجهل الحادث لهذه الأعلام" ويقول " ... فهذا والحالة هذه ليس مما نزل لأجله القصاص، فوقع الآن فيه الجدال والاستدلال ولات حين مناص، فإن شئت فارجع إلى الاصلاح بينهم، وإلا فزد فيما أفسد عليهم دنياهم ودينهم، فإنا نشهد الله والملائكة وجميع العباد أنا آمنا بالكتاب كله، وبجميع ما نزل لأجله، ونعوذ بالله أن نؤمن ببعض ونطعن في بعض، ونسلم أن ما أحكم فيه على الأعيان فرض "
[ انظرالرسالة في الفتوى الرقم 6043، ص 5998 مجموعة ابن البراء ]
وماذهب إليه الشيخ لولي من إسقاط القصاص في تلك الفترة هو رأي أجلاء علماء القطر، وبه كان العمل في هذه البلاد فقد أفتى بذلك العلامة حمى الله التيشيتي فقال: " إلزام القاتل عمدا الدية للمصلحة جرى به العمل في هذه البلاد من قديم الزمان والخروج عنه يفضي إلى الفساد " وقال في فتوى أخرى: " العمل بالسياسة مما نص عليه الأئمة الأعلام في كتب النوازل والأحكام، ولا يخفى أن إجراء الأحكام الشرعية في هذه البلاد السائبة متعذر فلذلك تعذر القصاص من القاتل لامتناعه منه، بحيث يترتب الفساد على محاولة أولياء القتيل الاقتصاص منه، إذ يؤدي ذلك إلى الهرج الذي هو جدير بإفساد الدين وإتلاف النفوس والأموال " [ نوازل حمى الله التشيتي تحقيق ولد السعد، ص 362]
وأفتى به أيضا الشيخ الكصري فقال: " وقد علمتم مما سلف أنه لا قصاص في هذه البلاد السائبة إذ لا سلطان فيها يقيم الحدود والأحكام" [ نوازل الكصري طبعة ابن حزم، 4/449]
وبين الشيخ العلامة محمد المامي في البادية مستندهم، فقال: " .. ويقرب من ذلك إسقاط بعض أهل بادية أهل البلاد لبعض العقل لحقن الدماء، فإنه إذا تيقن أن العقل لا يعطى كاملا إلا ترتب عليه مفسدة أعظم ودم أدهى وأمر، وجب ارتكاب أخف الحرامين، ووجوب ارتكاب أخف الحرامين قول إن لم يكن متفقا عليه فقوي، ولو لم يكن قويا فضعيف يصار إليه عند الضرورة".
ولما حكم العلامة محنض بابه فيما جرى بين العلويين والحسنيين بالقصاص نقض حكمه العلامة فتى ولد سيدين العلوي وألف كتابه " تنبيه العالم العلامة في موانع القصاص والقسامة "
وذكر أحمد الأمين الشنقيطي أن القتل نادر في الزوايا جدا لكن إذا وقع يصعب الانقياد فيه إلى القود فإما أن يتفقوا على دية وإما أن يتحاربوا [ الوسيط ص 502]
ثامنا: لا تخفى على القارئ القيمة العلمية للفتاوى الفقهية التي مثلت الوجه الشرعي لهذه النازلة نظرا لمحورية أصحابها ومكانتهم في الثقافة العالمة لجنوب بلاد موريتانيا " الكبله "، ولأهمية القضايا الشرعية التي ناقشتها كتنفيذ القصاص في غياب السلطة وتغير الفتوى بتغير الأعراف وصلاحيات المحكمين والقضاة وحدود طاعة المتغلب ودور الجماعة المسلمة في غياب السلطة القاهرة، ولقيمتها في معرفة المدونات الفقهية التي كانت موجودة في تلك الفترة وكانت مراجع المفتين والقضاة
وقد اهتم بها كثير من المؤرخين [ انظر مثلا التاريخ القضائي وكبريات النزاعات القضائية في موريتانيا لمحمدن بن سيدي محمد بن حمينَّ، وتاريخ القضاء في موريتانيا من عهد المرابطين إلى الاستقلال ] وكان اهتمامهم بها في سياق تاريخ القضاء وتنفيذ أحكامه في الأرض السائبة، و تنزيل الفتاوى على الحياة الاجتماعية لأهل البلاد وعلاقة ما بين الفتاوى والتاريخ الاجتماعي في المنطقة، وشرعية ومكانة حركة الإمام ناصر الدين ونظرة الزوايا لها في فترة الإمارات الحسانية، وعلاقة القبائل الزاوية بالنظام الأميري وشرعية سلطته تلك الآونة.
كما تمتاز بأبعاد أدبية وفنيات نثرية عالية تجعلها قد تجعل منها مثالا لفن النثرعند الشناقطة، فأي قارئ لا يطرب وهو يقرأ سطور العلامة المرابط مخاطبا الشيخ لولي ومسلما رسالة العلامة محنض بابه " هذا وإنه لا مخبأ بعد بوس، ولا عطر بعد عروس، فشمر أيها الناقض عن ساعد جدكَ، واكشف عن ساعدك وعضدك، واستعن بمن تحمد رأيه ، واستهد من ترضى هديه، وادر قبل الحز المفاصل، واعرف قدر من تناضل، ثم احتك بمِحَك الإقليم، أو تب واكتب بالتسليم والسلام .......
تاسعا: ما ورد في هذه الفتاوى من بعض الحدة وتبادل الاتهامات - حسب تعبير الأستاذين ـ مغمور فيما ورد فيها من تواضع وانقياد للحق وثناء متبادل، فهذا لولي يصف الشيخ محنض بابه ب " شيخ الزوايا " ويصفه الشيخ لمرابط ـ والذي كان أكثر صلة به ـ ب " محك الإقليم "، أما محنض بابه فيصف لولي بسعة العلم والاطلاع ويصفه الشيخ ابن متالي ب " شيخ قومه " ويشهد له بسعة العلم وحسن السجع " بينما يصفه لولي ب " العالم الكبير والشيخ السفسير"
عاشرا: أثارت استغرابي كلمة وردت في آخر مقال الأستاذ المصطفى ولد العالم عن علاقة أهل أبابك بالمدلش ب " من فيهم اركاكنه " - حسب تعبيره - وهذه لعمري غريبة من مثله وهفوة قلم، فالركاكنة وهم كبرى الركائز التندغية منذ الحلف التندغي وحتى الآن وإن أطبق عامة نسابيهم على نسبهم المجلسي الفاخر إلا أنه ظل حبيس رفوف المخطوطات وسلاسل النسب ودواوين الشعراء بينما كان العصب التندغي حيا في جميع تاريخهم فالجد الركوني عبد الله " ييج " هو جامع التنادغة بعد حربهم مع المجالسة [ اتحاف المبتغى ، الشيخ كلاه ، ص ٢٦ ] أما في الحاضر فآخر مجلس تندغي جامع كان تحت خيامهم حيث "مجمع البحرين".....
وفي الختام إن كنت وفقت فيما توخيت من سوق الأحداث والتعليق على مقالي الأستاذين بتجرد وموضوعية فالحمد لله رب المجد والكبرياء الموفق لكل خير وإن كنت لم أوفق فأستغفر الله من نفسي والشيطان، ولا أجد غضاضة ـ إن شاء الله ـ في الرجوع عن أي خطأ إذا استبان، ولسان حالي ينشد قول شيخ المشايخ علامة العصر بداه بن البوصيري:
وراية الرجوع فوق راسي * حينئذ وما به من باسي
وقع للصحاب ثم التابعين * وتابعيهم تابعي ذي التابعين
وللشيخين المصطفين أعتذر إن وجدا في تعليقي بعض ما لا يُسلم منه في المباحثة والجدال
ومالي على ذاك المقام تسلط * فإني من القرمين أخفض مستوى
وإنا على ما في الجواب نهابهم * كهيبة ذي شبلين قد مسه الطوى
ثم إني أعتقد أنه لا يجوز الخوض فيما شجر بين ذلك السلف إلا مع بيان أنهم جميعا كانواعلى بصيرة، وأشهد الله وملائكته والناس أجمعين على تعظيم جميع ذلك السلف الصالح وعلى المحبة الخالصة التي تربيت عليها وعرفتها عند شيوخنا من أكابر الأسرة لخالهم العلامة الولي الصالح البركة محمذن فال بن متالي رضي الله عنه وعن آبائنا وأهلنا أجمعين، وجمعنا بهم في مستقر رحمته إخوانا على سرر متقابلين.

كامل الود

إكس ولد إكس إگرگ

اكتب تعليقاً

أحدث أقدم